سورة الفجر - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفجر)


        


{فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)}
قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسانُ} يعني الكافر. قال ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة وأبا حذيفة بن المغيرة.
وقيل: أمية بن خلف.
وقيل: أبي بن خلف. {إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} أي امتحنه واختبره بالنعمة. وفَأَمَّا: زائدة صلة. {فَأَكْرَمَهُ} بالمال. {وَنَعَّمَهُ} بما أوسع عليه. {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} فيفرح بذلك ولا يحمده. {وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ} أي امتحنه بالفقر واختبره. {فَقَدَرَ} أي ضيق {عَلَيْهِ رِزْقَهُ} على مقدار البلغة. {فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ} أي أولاني هوانا. وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث: وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره. قلت: الآيتان صفة كل كافر. وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته وفضيلته عند الله، وربما يقول بجهله: لو لم أستحق هذا لم يعطينه الله. وكذا إن قتر عليه يظن أن ذلك لهوانه على الله. وقراءة العامة فَقَدَرَ مخففة الدال. وقرأ ابن عامر مشددا، وهما لغتان. والاختيار التخفيف، لقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]. قال أبو عمرو: فَقَدَرَ أي قتر. و{قدر} مشددا: هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال رَبِّي أَهانَنِ. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو {ربي} بفتح الياء في الموضعين. وأسكن الباقون. وأثبت البزي وابن محيصن ويعقوب الياء من أَكْرَمَنِ، وأَهانَنِ في الحالين، لأنها اسم فلا تحذف. وأثبتها المدنيون في الوصل دون الوقف اتباعا للمصحف. وخير أبو عمرو في إثباتها في الوصل أو حذفها، لأنها رأس آية، وحذفها في الوقف لخط المصحف. الباقون بحذفها، لأنها وقعت في الموضعين بغير ياء، والسنة ألا يخالف خط المصحف، لأنه إجماع الصحابة.


{كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)}
قوله تعالى: {كَلَّا} رد، أي ليس الامر كما يظن، فليس الغنى لفضله، ولا الفقر لهوانه، وإنما الفقر والغنى من تقديري وقضائي.
وقال الفراء: كَلَّا في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله عز وجل على الغنى والفقر.
وفي الحديث: «يقول الله عز وجل: كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي». قوله تعالى: {بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} إخبار عن ما كانوا يصنعونه من منع اليتيم الميراث، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب: {يكرمون} و{يحضون} و{يأكلون} و{يحبون} بالياء، لأنه تقدم ذكر الإنسان، والمراد به الجنس، فعبر عنه بلفظ الجمع. الباقون بالتاء في الاربعة، على الخطاب والمواجهة، كأنه قال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، واكل ماله كما ذكرنا. قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف. {وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ} أي لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم. وقرأ الكوفيون {ولا تحاضون} بفتح التاء والحاء والألف. أي يحض بعضهم بعضا. وأصله تتحاضون، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها. وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن إبراهيم والشيزري عن الكسائي والسلمى {تحاضون} بضم التاء، وهو تفاعلون من الحض، وهو الحث. {وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ} أي ميراث اليتامى. وأصله الوراث من ورثت، فابدلوا الواو تاء، كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة وتؤدة ونحو ذلك. وقد تقدم. {أَكْلًا لَمًّا} أي شديدا، قاله السدي. قيل لَمًّا: جمعا، من قولهم: لممت الطعام لما إذا أكلته جمعا، قاله الحسن وأبو عبيدة. واصل اللم في كلام العرب: الجمع، يقال: لممت الشيء ألمه لما: إذا جمعته، ومنه يقال: لم الله شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره. قال النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه *** على شعث أي الرجال المهذب
ومنه قولهم: إن دارك لمومة، أي تلم الناس وتربهم وتجمعهم.
وقال المرناق الطائي يمدح علقمة ابن سيف:
لأحبني حب الصبي ولمني *** لم الهدي إلى الكريم الماجد
وقال الليث: اللم الجمع الشديد، ومنه حجر ملموم، وكتيبة ملمومة. فالآكل يلم الثريد، فيجمعه لقما ثم يأكله.
وقال مجاهد: يسفه سفا: وقال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. قال الحطيئة:
إذا كان لما يتبع الذم ربه *** فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا
يعني أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم ونصيب غيرهم.
وقال ابن زيد: هو أنه إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله، ولا يفكر: أكل من خبيث أو طيب. قال: وكان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم.
وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك، فيلم في الأكل بين حرامه وحلاله. ويجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلا واسعا، جامعا بين المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الوراث البطالون. {وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا} أي كثيرا، حلاله وحرامه. والجم الكثير. يقال: جم الشيء يجم جموما، فهو جم وجام. ومنه جم الماء في الحوض: إذا اجتمع وكثر.
وقال الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأى عبد لك لا ألما
والجمة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. والجموم: البئر الكثيرة الماء. والجموم بالضم: المصدر، يقال: جم الماء يجم جموما: إذا كثر في البئر واجتمع، بعد ما استقي ما فيها.


{كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)}
قوله تعالى: {كَلَّا} أي ما هكذا ينبغي أن يكون الامر. فهو رد لانكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها، فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض، ينفع الندم. والدك: الكسر والدق، وقد تقدم. أي زلزلت الأرض، وحركت تحريكا بعد تحريك.
وقال الزجاج: أي زلزلت فدك بعضها بعضا.
وقال المبرد: أي ألصقت وذهب ارتفاعها. يقال ناقة: دكاء، أي لا سنام لها، والجمع دك. وقد مضى في سورة الأعراف والحاقة القول في هذا. ويقولون: دك الشيء أي هدم. قال:
هل غير غار دك غارا فانهدم ***
دَكًّا دَكًّا أي مرة بعد مرة، زلزلت فكسر بعضها بعضا، فتكسر كل شيء على ظهرها.
وقيل: دكت جبالها وأنشازها حتى استوت.
وقيل: دكت أي استوت في الانفراش، فذهب دورها وقصورها وجبالها وسائر أبنيتها. ومنه سمي الدكان، لاستوائه في الانفراش. والدك: حط المرتفع من الأرض بالبسط، وهو معنى قول ابن مسعود وابن عباس: تمد الأرض مد الأديم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6